بمناسبة انطلاق فعالية مهرجان اليوم العالمي للحضارة البابلية ..
نشارككم هذا المقال حول جوهرة العالم الامبراطورية البابلية ..
بابل ..
سيمفونيةُ الطين التي غنّتْ للخلود على ضفاف النهرين …
على امتداد دجلةَ والفراتِ، حيثُ تختلطُ أنفاسُ الطينِ بنبضِ الماءِ، ولدَتْ حضارةٌ لم تكتفِ بلمسِ الأرضِ، بل احتضنتِ السماءَ بجناحيْ طموحٍ بشريٍّ لا يعرفُ المستحيل. هنا، في قلبِ الرافدين، صاغَ الإنسانُ البابليُّ من حباتِ الطينِ نجومًا تُضيءُ دروبَ التاريخ، ومن دمعةِ النهرِ شرائعَ تُنصفُ الضعيفَ، ومن همسةِ الريحِ ملاحمَ تُصارعُ الفناءَ.
بدأتْ الحكايةُ مع بزوغِ حمورابي في الألفيةِ الثانيةِ قبل الميلاد، فكانَ كالنهرِ الجامحِ الذي يحوّلُ الوادي إلى حديقةٍ. لم يكتفِ هذا الملكُ المُشرّعُ بحدودِ السيفِ، بل أرسى قوانينَ تُنظّمُ دقائقَ الحياةِ، منازِعًا إلهَ العدلِ "شمش" مجدَهُ. نَحت على مسلّتِهِ حروفًا مسماريةً تقولُ للعالم: "لتكنِ القوةُ للعدلِ لا للظلمِ"، فكانتْ شريعتُهُ أولَ نبضٍ قانونيٍّ يُتردّدُ في أذنِ الزمنِ، لتصبحَ بابلُ قبلةَ الحُكماءِ ومهدَ الحضارةِ التي تُساوي بينَ الغنيِّ والفقيرِ.
ومع مرورِ القرونِ، ارتدتْ بابلُ ثوبًا من ذهبٍ تحت حكمِ نبوخذ نصر الثاني، فكان عصرُهُ انفجارًا لإرادةِ الإنسانِ. بنى الجنائنَ المعلقةَ كأنما يريدُ أن يُعلّقَ أحلامَهُ على أكتافِ السحابِ، وحوّلَ بوابةَ عشتارَ إلى لوحةٍ فسيفسائيةٍ تروي انتصاراتِهِ بلغةِ التنينِ الأزرقِ والثورِ الذهبيِّ. هنا، لم تكنِ العمارةُ مجردَ حجارةٍ، بل قصيدةً غنّاها البابليونَ للجمالِ، وكأنما الجدرانُ تتنفّسُ أسرارَ أمةٍ تؤمنُ بأنّ الخلودَ يُبنى بالإبداعِ لا بالدمِ.
لم تكنْ مدارسُ بابلَ أقلَّ سحرًا من قصورِها، ففي زواياها المُظلمةِ، كان الكتبةُ يُنقشونَ على ألواحِ الطينِ حكمةَ الأسلافِ. دوّنوا ملحمةَ جلجامشِ التي تساءلتْ عن سرِّ الموتِ قبلَ أن يعرفَ العالمُ كلمةَ "فلسفة"، ونسجوا أسطورةَ "إينوما إيليش" التي تُجسّدُ صراعَ الخيرِ والشرِّ في نشأةِ الكونِ. وفي أعالي الأبراجِ، قرأ الكهنةُ حركةَ النجومِ ككتابٍ مفتوحٍ، فقسّموا الزمنَ إلى ساعاتٍ ودقائقَ، ورسموا للبشريةِ خريطةَ السماءِ التي لا تزالُ تُرشدُ السائرينَ في ظلامِ الفضاءِ.
لكنّ الأقدارَ لا تُبقي على مجدٍ إلا لتحكي عنه. سقطتْ بابلُ كشجرةٍ عملاقةٍ اقتلعتها رياحُ الغزاةِ، فدخلها كورشُ الفارسيُّ عامَ 539 ق.م، وحلّقَ فوقَ أسوارِها الإسكندرُ المقدونيُّ كعصفورٍ يحملُ في منقارِهِ غصّةَ الوداعِ. لكنّ السقوطَ هنا لم يكنْ نهايةَ اللحنِ، بل تحوّلَ إلى صدىً لا ينتهي. لقد انتقلَتْ روحُ بابلَ من حجارةِ المعابدِ إلى ضميرِ الإنسانيةِ: فقوانينُ حمورابي صارتْ دماءً في شرائعِ الدولِ، وأسرارُ الفلكِ البابليِّ حلّقتْ مع صواريخِ العصرِ الحديثِ، وملحمةُ جلجامشَ ما زالتْ تُذكّرُنا بأنّ الإنسانَ – رغم فَنائِهِ – قادرٌ على نحتِ أسئلةٍ تخلّدُ.
اليومَ، تُغسِلُ أمطارُ الخريفِ أطلالَ بوابةِ عشتارَ، وكأنما الدموعُ نفسُها تُنظّفُ وجهَ التاريخِ. بينَ الحينَ والآخرَ، ترفعُ الريحُ صوتَها مُهمسةً :-
"انظروا! إنّ الخلودَ لا يسكنُ الحجارةَ، بل يُضيءُ حيثما وُجدَ عقلٌ يبحثُ، أو قلبٌ يشتاقُ إلى العدلِ". فبابلُ – التي صنعتْ من طينِ النهرينِ أقدارًا – لم تمت، إنما تحوّلتْ إلى حكايةٍ تُعلّمُنا أنّ الحضارةَ الحقيقيةَ هي التي تُبعثُ من رمادِها كلَّما احتاجَ العالمُ إلى بصيرةٍ تُضيءُ دربَ الإنسانِ …
تاكات المحتوى: مقال ثقافي
لاي اسئلة او استفسارات, يمكنكم الاتصال بالكاتب عبر البريد الالكتروني: abrar.saleh@uobabylon.edu.iq